أسواق النور
أرسلت بصرها من غرفتها عبر الطاقة التي تطل علي قبة السماء ، بعثرت حبات النجوم كعادتها ، تبحث عنه ، تهمس بداخلها أين اختفي القمر ، خرجت من صدرها آة ألم ، نادت عليه ، لمَّا ظهر ، فرش نوره علي وجهها ، بثت إليه نجواها ، فعادت للقمر آلام جرحه القديم لمَّا انفلق ، رق قلبه وألقي نظرة علي الملائكة النائمين في حضن الجدة ، تحجرت عيناها بعدما جفت الدموع التي انسكبت علي ابنها الذي راح 00
تحسست "نبوية " فراشها الخالي ، سيظل ْ بارداً إلي الأبد أو إلي حين ، يغرز الحزن أنيابه في قلبها بلا رحمة ، تنظر يائسة إلي تركة الزوج الحبيب ، أمه وكوم لحم 00
مضي أكثر من ثلثي الليل ولم يغمض لها جفن ، تبحث في رأسها عن وسيلة ترعي بها أسرتها المنكوبة ، ورد بخاطرها أن تستعين بعم العيال أو الخال ، سرعان ما استبعدت الفكرة ، فهم لا يملكون أرضاً ولا مالاَ 00
أرسلت بصرها ثانية عبر الطاقة ، تستلهم من السماء العون والمدد ، تذكرت نصائح أمها
" ما يمسح دمعتك إلا إيدك "
يا فرج الله ، ومضت في رأسها فكرة ، أن تدخل سوق الخضراوات بائعة ، تحاور هواجسها ، ولم لا 00
الناس لا يتوقفون عن تناول الطعام والشراب ساعة من ليل أو نهار ،
تسللت "نبوية" من بين أنياب الهموم ، عقدت طرحتها السوداء حول رأسها وأخفت جمالها بتقطيبه بين الحاجبين ، وحبست دلالها الأنثوي داخل قفص الصدر ،
رسمت علي الوجنات مسحة حزن وعبوس وأطفأت مصابيح ورد الخدود 00
قبل أن تشرق الشمس كانت تجني قرون البامية وأعواد الملوخية الخضراء
من علي شط ساحل الترعة التي زرعها الفقيد ، سقطت قطرات الندي علي الأرض وامتزجت بعبرات "نبوية" الساخنة ، امتلأت السلة بالمحصول وفاض قلبها بالأمل 00
حملت بضاعتها وتوجهت إلي سوق المدينة المجاورة،
سلكت طريقاً وعراً بعيد عن أعين أهل بلدتها الشامتين ،
منعها الحياء أن تسأل من أي الدروب تسير ، دخلت المدينة من جانبها الغربي ،
سارت بين الشوارع تنادي علي بضاعتها
: " الملوخية والبامية الخضرة "
نبرات صوتها ممزوجة بالخجل ، حثت نفسها وشجعتها ، من أجل أولادك يا " بنت يا نبوية " نادي بقوة ،
انطلق صوتها من عقاله وكأنه بلبل شادي ، خرج الصوت فرحاً من سجن الخجل ،
أتاها صدي صوتها الذي يتردد في المكان واضحاً وقوياً ، لكنها لم تر أو تسمع أحد يطلب بضاعتها ،
كررت النداء علي بضاعتها وانتظرت ربة بيت تطلب منها حزمة ملوخية أو بعض ثمرات البامية ، تصفحت المباني والدور ، ليس لها نوافذ أو شرفات ، لها أبواب حديدية مؤصدة ، وعلي جدارها الخارجي قطع من رخام مكتوب عليها بحروف سوداء ، تفحصتها ، فوجدتها أشبه بالكلام المكتوب أسفل الصور في كتب أطفالها المدرسية 00همهمت لنفسها " ربما سكان هذه الدور يغطون في نوم عميق و سيقومون حتماً من مرقدهم بعد قليل "،
تعبت قدماها وتسرب اليأس إلي قلبها ، جلست تحت ظل شجرة جرداء ثم نظرت إلي أعلي ترصد مكان الشمس ، تساقط علي ملابسها مخلفات الغربان الواقفة في سكون الموقف علي الأغصان اليابسة ، انتظرت حتى تجف وبعدها تفركها وتزيل آثارها
أسندت ظهرها إلي بقايا جدار متهدم ، تلتمس قسطاً من الراحة ثم تواصل النداء علي بضاعتها ، انسابت دموعها فيضان ، فلا باعت بضاعتها ولا أحد معها يؤنس وحدتها في السكون الموحش ، بينما كانت تكابد همومها وإذا بشيخ وقور ، يشع من وجهه نور ضياء ، القي عليها السلام ثم استعاذ بالله وقرأ بعضاً من آيات كتاب الرحمة والنور ، بعد أن ختم بالدعاء سألها
: الميت قريبك ؟
: زوجي ، ثم هبت منصرفة علي عجل دون أن تعقب
ناداها الشيخ ملهوفاً : لقد تركتي سلة بضاعتك يا ابنتي
قالت دون أن تلتفت : خذها يا مولانا رحمة ونور