إذا أردت أن ترتب أصحاب النبى " صلى الله عليه وسلم"وفق سبقهم الزمنى, فى الإسلام فاعلم أن الصحابى "عثمان بن مظعون" ترتيبه الرابع عشر(14).
و"ابن مظعون" هو أول من توفى من المهاجرين فى المدينة, وكان أول من دفن بالبقيع من المسلمين.
وكان "ابن مظعون" راهبا عظيما, ليس راهبا بمعنى راهب فى الصوامع, بل هو راهب من رهبان الحياة.
فكانت حياته بكل ما فيها من مسئولية وفضائلها هى صومعته, وكان مثابرا ومتفانيا فى سبيل الله وفى سبيل الخير والإصلاح.
و"ابن مظعون" هو من أول الذين سارعوا للدخول فى الإسلام والالتفاف حول رسول الله"صلى الله عليه وسلم"وقد نزل به من الأذى ما كان ينزل بالمؤمنين الذين كانوا يدخلون فى دين محمد حينئذ. وحينما اشتد الأذى بالمسلمين فى ذلك الوقت وكانوا قلة ولم يكن قد انتشر الإسلام بعد, وأمرهم النبى "صلى الله عليه وسلم" بالهجرة إلى الحبشة فكان "ابن مظعون" أمير أول فوج من المهاجرين, وكان كشأن كل المهاجرين فى كلتا الهجرتين الأولى والثانية للحبشة, ورغم كل ما مر به "ابن مظعون"كغيره من المسلمين, لم يزدد إلا استمساكًا وصبرًا وجلدًا بالإسلام.
ومع هجرة هؤلاء المسلمين إلى الحبشة وكان الدين السائد وقتها, هو النصرانية ويبدو أن رجال الكنيسة حينئذ قد حاولوا استمالتهم"المهاجرين" لدينهم المسيحية, لكننا نرى أن هؤلاء صبروا كثيرا وكيف أنهم يبقون على ولائهم للإسلام, ولمحمد" صلى الله عليه وسلم"مترقبين فى شوق وقلق, ذلك اليوم الذى يعودون فيه إلى بلادهم حتى يعبدوا الله وحده, ويكونوا مع رسول الله" صلى الله عليه وسلم".
وحينما كان المهاجرون فى الحبشة كانوا مطمئنين وآمنين, وكان معهم"ابن مظعون"ولم ينس مكايد ابن عمه"أمية بن خلف" وما ألحقه به من أذى وضرر فراح يتسلى بهجائه ويقول:
وحاربت أقواما كراما أعزة
وأهلكت أقوامًا بهم كنت تزعُ
ستعلم إن نابتك يومًا ملمة
وأسلمك الأوباش ما كنت تصنعُ
وبينما هم فى الحبشة إذا بهم يسمعون خبرًا أن قريش قد أسلمت, فقرروا أن يخرجوا سريعًا للعودة إلى ديارهم ونبيهم, وعندما ذهبوا إلى مكة وجدوا أن الخبر غير صحيح, وأنهم وقعوا فى فخ قريش فأخذ كل منهم الهرب إلى جوار يحميه, وكان من بينهم "ابن مظعون" فقد احتمى "بالوليد بن المغيرة" وعندما رأى إخوانه من المسلمين المعذّبين وهو يحتمى فى جوار وآمن قرر أن يخرج وقال" إن غُدوى ورواحى آمنا من البلاء والأذى ما لا يصيبنى, لهو نقص كبير فى نفسى".
وصار يغدو ويقول شعرًا:
فإن تك عينى فى رضا الله نالها
يدَا ملحد فى الدين ليس بمهتدى
فقد عوض الرحمن منها مضللٍ
لأحيا على دين الرسول محمد
وهكذا ضرب "عثمان بن مظعون"مثلا لأهله فى التضحية والفداء.
وبعدها يهاجر "ابن مظعون" إلى المدينة مع هؤلاء العظام الذين تجرعوا ألم العذاب من قريش, وقد حملوا راية الإسلام منطلقين من بوابة المدينة, وفى دار الهجرة المنورة يتكشف جوهر "ابن مظعون"وتتضح حقيقته العظيمة, فهو العابد الزاهد الأواب المتبتل, راهب الليل, فارس النهار.
فقد أحال حياته كلها إلى صلاة دائمة, وما إن ذاق حلاوة العبادة والقرب من الله, حتى زهد عن نعيم الدنيا, وأخذ يلبس ملابس خشنة, وذات يوم دخل على النبى "صلى الله عليه وسلم" المسجد وأصحابه يجلسون حوله فبينما يراه النبى على حالته وهو يرتدى ثيابا ممزقة فأدمعت عيناه ورق قلب النبى له.
وقد أحبه الرسول"صلى الله عليه وسلم" حبا جما.
وحين كانت روحه تتهيأ للرحيل, حتى يقابل ربه ويكون أول المهاجرين ارتيادا لطريق الجنة, كان النبى عنده وأخذ يقبل رأسه, ويعطره بدموعه التى هطلت من عينيه فملأت وجه "عثمان بن مظعون".
وحينها قال الرسول "صلى الله عليه وسلم":
"رحمك الله يا أبا السائب, خرجت من الدنيا, وما أصبت منها, ولا أصابت منك"
ولم يكن ينسى النبى "صلى الله عليه وسلم" ذكر "عثمان بن مظعون"حتى حين فاضت روح ابنته رقية قال لها"الحقى بسلفنا الخيّر, عثمان بن مظعون".!!!!