تفاجئنا التحقيقات مع الرئيس السابق ومسؤولى نظامه بمستوى غير مسبوق من الهشاشة النفسية والأخلاقية، «صفوت الشريف» يبكى أمام المحقق، حين واجهه بممتلكاته والوثائق التى تثبتها، والأدهى من ذلك الرئيس السابق نفسه، فحين سئل عن دوره فى صفقة تصدير الغاز لإسرائيل ألقى بالمسؤولية على وزير البترول ومعاونيه وأنهم لم يكونوا يرجعون إليه، ثم قال إن الصفقة تمت، وفق اتفاقية «كامب ديفيد» التى وقعها السادات ولم يوقعها هو، وأنه ليس مسؤولاً عنها، وهذه إجابة موظف صغير أو تلميذ فى المدرسة يعنفه معلمه لأنه لم يقم بواجبه المدرسى، وليست إجابة رئيس جمهورية، كان مسؤولاً، وأعلن مراراً أنه يعلى المصلحة الوطنية العليا بغض النظر عن أى شىء!
ليست هذه المرة الأولى ولا هى الأخيرة فى التاريخ لانهيار نظام بأكمله ومحاكمة رجاله، لكننا لا نعرف رجالاً كانوا بهذه الهشاشة، بعد 23 يوليو 1952 حوكم رموز النظام الملكى، ولم يكونوا يمثلون أمام القاضى الطبيعى، بل كانت محاكم استثنائية لا يراعى فيها أى ضمانات قانونية، ومع ذلك كان باشوات العهد الملكى متماسكين..
واجه إبراهيم عبدالهادى حكماً بالإعدام وهو مطمئن إلى سلامة موقفه، وخفف الحكم ثم أفرج عنه ومارس حياته فى حدود الممكن وقتها، لم يكن وحده فى ذلك، بل كان هناك آخرون مثل فؤاد سراج الدين وعثمان محرم، وبعد انهيار النظام الناصرى فى 15 مايو 1971 تم إيداع رموز النظام السجن وحوكموا أمام محكمة استثنائية وتم توجيه تهمة الخيانة العظمى لبعضهم، ومع ذلك كان كبيرهم «على صبرى» متماسكاً وشامخاً، ومن يعد تأمل صورته وهو فى قفص الاتهام يجد نفسه أمام رجل توجه عيناه الاتهام لمن يحاكمونه، لم يبك ولم يولول ويتملص من التهم بصغَار شديد، على النحو الذى نراه اليوم، ولم يكن وحيداً فى ذلك، بل كان هناك آخرون كبار مثل محمد فايق والفريق فوزى و.... إلخ.
ورغم تسلط وإجرام صدام حسين فقد بدا فى التحقيق معه متماسكاً ويحمل موقفاً واضحاً لم يتراجع عنه ولم يتخاذل، على الأقل، أمام نفسه، وفى مشهد تنفيذ الإعدام بدا كأنه يولد من جديد.. قوياً غير هيّاب، لكن رئيسنا السابق وبطانته كشفوا خواء حقيقياً وللمرء أن يتساءل: كيف حكم هؤلاء مصر لثلاثة عقود؟!
كانوا صغاراً وهم يحكمون، وأقزاماً وهم يحاكمون، مبارك المتغطرس، يخشى الانتقال إلى السجن ويقول فى التحقيق «إلا أولادى».. لو كان لديه قدر قليل من المسؤولية الوطنية، وأصدر بياناً يعتذر فيه إلى الشعب المصرى عما صدر منه، ولو كان مدركاً لطلب هو من نفسه أن يتحمل المسؤولية ويحاسب عن كل ما وقع، فعلها عبدالناصر فى بيان التنحى، فاكتسب تقدير المصريين واحترامهم، وقبل ذلك بقرون تمسك طومان باى بدفاعه عن استقلال مصر، وحين عُرض عليه أن يحكمها، لكن فى تبعية غير مصرية، رفض وتقدم بكل ثقة نحو حبل المشنقة أمام باب زويلة، فحمله المصريون فى ضمائرهم تاريخاً حياً ونوراً لا ينطفئ حتى اليوم.
حتى معتادو الإجرام حين يضبطون ويدركون أن حبل المشنقة أمامهم، يبدون أكثر تماسكاً.. حين قبض على «ريا» فى الإسكندرية، مطلع العشرينيات من القرن الماضى، قالت أمام وكيل النيابة: هىّ موتة ولا اتنين، وأدلت بكل ما لديها، بلا خوف وبلا وجل من مواجهة مصيرها المحتوم، بينما صفوت الشريف يبكى.. بكاء الخوف والفزع، لا بكاء الندم أو التطهر.. والرئيس السابق يقول: «ماليش دعوة»!!
لقد استقوى هولاء بضعفنا، وكان هذا النظام يستحق السقوط.
كانوا صِغاراً وزادتهم السلطة صَغارًا، لم يكبروا بها ولم يرتقوا معها، بل انحدروا إلى حد غير مسبوق، وها هم يدخلون التاريخ اليوم من باب التخاذل والصَّغار والخواء الإنسانى إلى أقصى حد، فافتقدوا الحدود الدنيا من التعاطف، وإذا لطف الله بهم نالوا الإعدام، أما ما يستحقونه فهو أن يظلوا هكذا مسخة وعبرة، فلو أعدمنا كلاً منهم عشرات المرات فلن يوفيه ما يستحق من عقاب.
نقلا عن المصرى اليوم