[center]
بخلاف أفلاطون الذي قرر طرد الشعراء من
جمهوريته، كان الشاعر الباكستاني محمد إقبال (1877-1938م) أول من نادى
بقيام وطن خاص بالمسلمين في شبه الجزيرة الهندية، وهو صاحب فكرة إنشاء دولة
باكستان التي رأت النور بعد وفاته بسنوات (1947). ومثلت موضوعات شعره
وأفكاره مفاتيح التراسل الفكري والروحي بين شبه القارة الهندية والبلاد
العربية في مرحلة ما بعد الكولينيالية.
كان أسلاف محمد إقبال -المولود لعائلة
مسلمة تنحدر من مدينة سيالكوت بإقليم البنجاب- من البرهمية وينتمون إلى
جماعة من الياندبت في كشمير، وقد اعتنقوا الإسلام في عهد السلطان زين
العابدين بادشاه.
ومن هنا يمكن فهم تعدد مرجعيات النظر
لدى إقبال -ابن "الشيخ نور" والسيدة "إمام بيبي"- بين القرآن الكريم واللغة
العربية، وثقافته الفلسفية والمثيولوجية لإرث شبه القارة الهندية، وثقافته
الغربية ورحلاته في الشرق والغرب، وتنقله بين حقول المعرفة.
ويقول إقبال عن نفسه "جسدي زهرة في حبة
كشمير، وقلبي من حرم الحجاز وأنشودتي من شيراز".
تعلم إقبال في كتاتيب القرية والمدارس
الحكومية، وحصل على البكالوريوس ثم الماجستير والدكتوراه في الفلسفة من
ألمانيا عن دراسة له بعنوان "تطور الميتافيزيقيا في إيران" كما درس الحقوق
في كامبردج بإنجلترا، ليكتسب تنوعا وثراء في ثقافته وإتقانه لعدد من اللغات
بينها الإنجليزية والعربية والأوردية والفارسية.
كما أن تنوع دراسته بين الفكر والفلسفة
والاقتصاد والحقوق يشير إلى تنازع السعي للمعرفة الوجودية للدفاع عن
الإسلام في مواجهة الآخر فكرياً، والانحياز للفقراء والمظلومين.
وقد كان إقبال الذي تزوج ثلاث مرات،
وأنجب ولداً وطفلتين، ومات فقيراً، ذكياً لماحاً، وقارئاً نهماً، واسع
الثقافة، بسيطاً، قلقاً، دائم السؤال والمناجاة.
وعلى عكس ما ذهب إليه الداعية سيد قطب
الذي غادر منطقة الشعر لمصلحة الفكر، ظل إقبال يراهن على "الصوت الذي أطلقه
إلى السماء" وبقي الشعر لديه رؤية للوجود، وليس مجرد وسيلة للتعبير،
متوافقاً في ذلك على اختلاف الديار والزمان والأفكار مع ناقدين معاصرين،
هما الشاعر السوري أدونيس وابن موطنه الناقد كمال أبو ديب، وقد اعتبرا
الشعر جوهر الوجود.
والحقيقة أن حياة محمد إقبال على
اتساعها وتعدد اهتماماته، تعبر عن قلق وجودي يضارع ما ألم بالمفكر سيد قطب
على اختلاف المسارات، وتؤرخ لحال المسلمين مطلع القرن الماضي.
كما تمثل موضوعات شعره وأفكاره مفاتيح
التراسل الفكري والروحي بين شبه القارة الهندية والبلاد العربية في مرحلة
ما بعد الكولينيالية.
وتضارع تجربة إقبال في سموها تجربة
معاصره "شاعر الهند" طاغور في إنسانيتها وروحانيتها وفي إرهاصاتها الفكرية
وبحثها عن الذات والهوية والعلاقة مع الآخر، وقراءتها لمفاهيم الحداثة
والتراث، واستيعابها للعلم والمعرفة.
وقد رثاه طاغور بقوله "إن ما ناله شعر
إقبال من صيت يرجع إلى ما فيه من نور الأدب الخالد وعظمته". وتمثل تجربته
الشعرية التشابكات الفكرية والفقهية، وربما التنظيمية التي عبرت عنها
الحركة الإسلامية" السياسية" في مصر منتصف القرن الماضي.
طغى الشعر على حياة إقبال ووجدانه رغم
عشرات المؤلفات في غير حقل، ونزوعه السياسي ودراساته في الاقتصاد وحضوره
الأكاديمي واشتغاله في المحاماة التي أحبها.
وفي السياسة كان إقبال معادياً
للاستعمار، وقد حاول الإنجليز استمالته وإغراءه بالمناصب، فعرضوا عليه منصب
نائب الملك في جنوبي أفريقيا فرفض المنصب، وكان معجباً بالاشتراكية.
وقال في ذلك "إذا تقبلت الهندوسية فكرة
الديمقراطية الاشتراكية, فلابد لها أن تتوقف عن أن تكون هندوسية, أما
بالنسبة للإسلام، فإن تقبل الاشتراكية الديمقراطية بشكل مناسب, يتفق مع أسس
الشريعة الإسلامية" ولكنه يستنكر الاشتراكية الإلحادية، ويعتبر الفلاسفة
"حكماء العالم".
الشعر والفلسفة
مارس إقبال السياسة في الشعر، والشعر في
السياسة، متمثلاً سيرة حسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم والذي
دافع عن الإسلام بالقصيدة. وحال اهتمام القراء بشعره دون التعرف إلى
مؤلفاته الأخرى، وتحديداً ما يتعلق بدعوته إلى تجديد الفكر الإسلامي، الذي
ألف فيه كتاباً بالعنوان نفسه، وكان رائداً في ذلك.
كان الشعر أثير "أفكاره" و"مقولاته
الفلسفية"، وكانت القصيدة تأريخاً توثق لزياراته ومناسباتها وأوضاع
المسلمين، وقت زار قرطبة، والقدس، ومصر وغيرها، وكان يكتب قصيدة في الليل
فتنشر في الصحف في اليوم التالي فيخرج الشعب إلى الشوارع.
نقلت قصائد إقبال ليس إلى اللغة
العربية، بل مختلف لغات العالم، وغنت له أم كلثوم "حديث الروح" التي كان
لها أصداء كبيرة في البلاد العربية، ومن أبياتها:
"حديث الروح للأرواح يسري
وتدركه القلوب بلا عناء
هتفت به فطار بلا جناح
وشق أنينه صوت الفضاء
ومعدنه ترابي ولكن
سرت في لحنه لغة السماء
لقد فاضت دموع العشق مني
حديثا كان علوي النداء
فحلق في ربا الأفلاك حتى
أهاج العالم الأعلى بكائي".
ولم يغادر إقبال النشاط السياسي في
منطقة كانت تمور بالأحداث حتى وفاته، فقد انضم لحزب الرابطة الإسلامية،
وحضر العديد من المؤتمرات الإسلامية، بينها مؤتمر القدس، يدافع عن حقوق
وأوضاع المسلمين بالهند، وكان صاحب نظرة خاصة في طبيعة العلاقة بين
المسلمين والهندوس في الهند.
قبل أن ينقطع للشعر ألف كتابه الأهم
"تجديد التفكير الديني في الإسلام" وهو مجموعة محاضرات ألقاها إقبال
بالإنجليزية (1928-1929م) شرح فيه البواعث والأرضيات والسياقات، الذاتية
والموضوعية والفكرية التي حرضته على تبني فكرة تجديد الأسس الفكرية
والفلسفية للتفكير الديني، وفق الباحث السعودي زكي ميلاد.
وفي قراءته لعلاقة المسلمين مع الغرب،
رأى إقبال أن أبرز ظاهرة في التاريخ الحديث هي السرعة الكبيرة التي ينزع
بها المسلمون في حياتهم الروحية نحو الغرب.
وعبر عن خشيته من إقبال المسلمين على
المظهر الخارجي البراق للثقافة الأوروبية، ورأى أن بإمكان العالم الإسلامي
الانخراط في العالم الحديث، وإتمام التجديد بالتقريب بين الفلسفة الإسلامية
والفلسفة الأوروبية الحديثة، اللتين انقطعت الصلة بينهما من بعد فلسفة ابن
رشد.
ويرى إقبال أنه لكي ينهض العالم
الإسلامي بمهمة التجديد ويتخلص من رواسب الجمود فهو بحاجة إلى الاجتهاد
المطلق. لكن ما يؤخذ على إقبال أن معرفته بالفلسفة الغربية تفوق معرفته
بالثقافة العربية والإسلامية، وأن مصادره المعرفية جاءت عن طريق
المستشرقين.
كتب عنه كثير من المفكرين العرب
والإنجليز والألمان والفرنسيين وغيرهم، ومنهم من سجل إعجابه به، وهناك من
توقف عند عدد من القضايا المنهجية في فكره.
قال عنه المفكر الباكستاني فضل الرحمن،
إن هدف إقبال لم يكن دراسياً علمياً، بل كان هدفه يقظة المسلمين كأمة
وجماعة. ولم يقدم أي شيء من شأنه أن يمثل صياغة لسياسات تربوية إسلامية،
ليس فقط في المجال التربوي، بل في غيره من حقول المسعى البشري.
ويحدد إقبال طبيعة مهمته الفكرية بالقول
"ينبغي أن نتناول المعرفة العصرية بنزعة من الإجلال، وفي روح من
الاستقلال، والبعد عن الهوى، وأن نقدر تعاليم الإسلام في ضوء هذه المعرفة،
ولو أدى بنا ذلك إلى مخالفة المتقدمين، وهذا الذي أعتزم فعله".
ودعا ذلك غالبية الباحثين إلى وضعه في
مصاف المصلحين، وليس الثوريين الانقلابيين، وربما يفسر ذلك بالمناخات التي
تسيطر على فكر المصلحين في شبه القارة الهندية.
تطرق غالبية الذين كتبوا عن إقبال
ودرسوا أفكاره إلى الشيخ محمد عبده، وبعضهم أجرى مقاربات بينهما، ولم يلتفت
هؤلاء جميعاً إلى أن إقبال لم يتحدث عن الشيخ محمد عبده، ولم يأت على ذكره
قط في كتابه "تجديد التفكير الديني في الإسلام" كما لم يأت على ذكر عبد
الرحمان الكواكبي، أو رشيد رضا، وغيرهم من أعلام النهضة العربية، ومرّ
سريعاً على جمال الدين الأفغاني.
كتب عنه الداعية سيد قطب، ومحمود عباس
العقاد، وعميد الأدب العربي طه حسين الذي قال عنه "رفع مجد الآداب
الإسلامية" كما كتب عنه في "روائع إقبال" أبو الحسن الندوي الذي خالفه في
انفصال باكستان على أساس ديني، وذكره الأديب نجيب الكيلاني في كتابه "إقبال
الشاعر الثائر".
ترجم له عبد الوهاب عزام والشيخ الصاوي
شعلان، ومحمد حسن الأعظمي، ومحمد عبد المنعم إبراهيم، الكثير من روائعه إلى
العربية، ومنها:
"يا أرض النور من الحرمين
ويا ميلاد شريعتنا
روض الإسلام ودوحته
في أرضك رواها دمنا"
ومن شعره أيضا:
"أمة الصحراء يا شعب الخلود
من سواكم.. حل أغلال الورى
أي داع قبلكم في ذا الوجود
صاح لا “كسرى” هنا أو قيصرا
من سواكم.. في حديث أو قديم
أطلع القرآن.. صبحا للرشاد
هاتفا مع مسمع الكون العظيم
ليس غير الله ربا للعباد"
ناهزت كتب إقبال على العشرين كتاباً في
الفكر والاقتصاد والشعر، ومن كتبه الشعرية: أسرار خودي "أسرار معرفة
الذات"، رموز بيخودي "أسرار فناء الذات"، رسالة المشرق "بيام مشرق"
بالفارسية جواب لكتابة غوتة تحية الغرب، الفتوحات الحجازية أو هدية الحجاز
"أرمغان حجاز".
في السنوات الأخيرة من عمره اجتمع المرض
عليه، فقد ضعف بصره فاعتزل مهنة المحاماة، ولم يستطع العلاج، وكان يتلقى
منحة شهرية من إحدى الجمعيات الإسلامية من أجل أطفاله الذين ما زالوا
صغارًا.
عندما حضرته الوفاة، قال إقبال "ليت
شعري.. هل تعود النغمة التي أرسلتها في الفضاء، وهل تعود النغمة الحجازية،
فليت شعري، هل حكيم يخلفني..؟