سأل المعلم تلامذته، و كان المفتش يلاحظ الأداء من على آخر طاولة، ماذا تعني الحرية ؟ فارتفعت أصابعهم متعالية و تواردت إجاباتهم الواحدة تلو الأخرى : الحرية هي أن يقول الإنسان ما يشاء . الحرية هي أن يفعل المرء ما يريد . الحرية هي نقيض العبودية ، و الحر هو نقيض العبد ، كما أن الحرة هي نقيض الأمة ، و الحر في لسان العرب هو الصافي ، الفاخر ، الخالص ، الأعتق ، الأخير و الأفضل . و هو أيضا ولد الظبي و فرخ الحمام و كذا الكريم ، الكثير المطر ، و جيد البقل و الفاكهة ، و وسط الأماكن و أطيبها . الحرية، يا أستاذ، هي أن يذهب الشخص إلى حيث يستهويه الذهاب . الحرية هي أن يختار الفرد ما يحب. الحرية هي أجل هدية قدمها الله لآدم. الحرية هي أن يأخذ الناس ما يعشقون . الحرية هي أن يلعب الطفل كما يشاء و متى يشاء و بما يشاء . الحرية هي أن ألبس و أقص شعري بالشكل الذي يرضيني . الحرية هي جوهر كرامتنا الإنسانية . الحرية ،،،، الحرية يا أستاذ هي ،،،
بابتسامة رقيقة قاطع المعلم التلامذة قائلا، و كان المفتش حينئذ قد انكب على تسجيل ملاحظاته، حسنا. جيدة جدا تعريفاتكم للحرية . أما الآن، فتفضلوا مارسوا حريتكم. ثم أردف مناديا: سعيد، فاطمة، أحمد، قولوا ما يروق لكم قوله. خديجة ، علي ، أمل و صفاء ، اذهبوا إلى حيث تفضلون . عادل ، إبراهيم ، محمد ، نرجس ، خذوا ما ترغبون فيه . أنت ، أنت ، أنت و أنت ، العبوا كما يعجبكم و بالأشياء التي تحلو لكم .
قبل أن ينهي المعلم كلامه التفت طفل و في رمشة عين سحب ورقة ملاحظات المفتش و قفز بعيدا . و ترددت طفلة قليلا ثم انطلقت تردد بصوت عالي : أنا شحرورة ، أنا عصفورة ، أنا حرة أغرد خارج القفص . و انبرت أخرى تحكي و هي تحاول أن تغلق فم جارتها عن الغناء. و فيما ارتفعت أصوات بالاحتجاج من هنا و هناك ، و انزوى زوج خلف المكتب . و واصل ثلاثة ، تارة ، يتراشقون بالأقلام الملونة و بالمساطر و الدفاتر و الكتب ، و تارة يستغفلون المعلم فيرشقونه بقطع الطباشير ، تجوقت ثلة فوق أرضية المنصة و راحت مجموعة تقطع عتبة باب القسم ذهابا و إيابا مرددة نشيدا وطنيا . و في حين كان آخر يرسم على السبورة قمرا و ثعلبا و فرخة حجلة مذعورة ، كان غيره يمسح السبورة و يرسم نهدا و ،،،، أشياء أخرى .
انتفض المفتش متنرفزا . رمق المعلم متوعدا . هرول متعثرا في الزحمة خلف الطفل . شد الطفل من رقبته . انتزع منه الورقة ثم صرخ من داخل الضجيج : الصمت ، أقول الصمت . النظام ، أقول النظام . إلزموا أماكنكم و إلا ،،، سل حزامه و هدد مسوطا في الهواء ، إلزموا الصمت ، أقول و إلا ،،،
عاد الأطفال إلى مقاعدهم . التقطوا أشياءهم المتناثرة و انكمشوا يحدق كل في قفا الجالس أمامه . و من النافذة المسدودة أخذ يتناهى إلى أسماع الجميع صوت ضربات خفيفة ، متقطعة ، على الزجاج . كانت ثمة نحلة تحاول الخروج .
قال المعلم ، دون أن تفارقه ابتسامته الرقيقة ، و الآن ما الذي استخلصتموه ؟ فقال المفتش : تعليم الفوضى يا أستاذ . و رد تلميذ : استخلصنا أشياء كثيرة يا أستاذ . فلوح المفتش بيمينه و تابع و هو يصفق الباب و ينصرف : انتظر تقرير تفتيشك ، انتظر عاقبة تسيبك ، انتظر ،،،
ارتسمت على وجوه الأطفال علامات استغراب و استفهام . فقال المعلم في سره لسره ، على كل حال هما طريقان و طريقي أن أجدى السبل لتعلم الحرية هي الحرية ذاتها لأن الأصل في الأشياء الإباحة و الأصل في الناس الحرية . ثم أعلن لتلامذته ، لا تهتموا ، الذي كان معنا هو السيد ،،، تعني الحكومة يا أستاذ ؟ استفسرت تلميذة من عمق قاعة الدرس . أو ربما يعني القانون أو الدرك أو الأب . علق تلميذ من الزاوية الأمامية اليسرى من القاعة .
اتسعت ابتسامة المعلم و قال : قد يكون الأمر كذلك يا أصدقائي ، لكن لنعد إلى موضوعنا . ما هي تلك الأشياء التي استخلصتموها ؟
قال سعيد : استخلصت أن حريتي في القول و الكلام تكون دون جدوى إذا لم تجد من يسمعني و يفهم كنه تعبيري ؛
قالت خديجة : أدركت أن حريتي لكي تكون جديرة بأن تعاش يجب أن تقف حالما تبتدئ حرية الآخرين ؛
قال عادل : توصلت إلى أني لست حرا في إيذاء ذاتي و أشيائي أو ذوات الآخرين و أشياءهم ؛
قالت نرجس : تأكدت من أني لن أكون حرة و أنا لا أكد و أجتهد و لا أفعل الخير و لا أتسامح و لا أتعاون و لا أشارك ؛
قال علي : و أنا تيقنت من أني لن أكون حرا إذا حرمت غيري من حريته ؛
قالت أخرى : أما أنا فتعلمت أن الحرية هي الفضاء الأنسب لأن أفقه الأشياء و العلوم و أعرف الناس و يعرفني الناس و أحذق الحرية ؛
قال آخر : و أما أنا فتكون لدي الاقتراح التالي ، تعالوا ننشئ دستور القسم ، ميثاق العقل ، ميثاق الحرية .
صفق التلامذة . صفق المعلم و فتح النافذة ... كانت ثمة نحلة تصفق و تطير و تخرج
.