تدريبه وميلاد "جاك بيتون"
وافق رفعت علي التعاون مع الضابط وبدأت فترة تدريب مكثف له حيث شرح له أهداف الثورة وفروع علم الاقتصاد، وتعلم سر نجاح الشركات متعددة القوميات، وأساليب إخفاء الحقائق بالنسبة لمستحقات الضرائب، ووسائل تهريب الأموال، وتعلم عادات اليهود وسلوكياتهم. وتلقي دروساً مكثفة في اللغة العبرية كما تعلم تاريخ اليهود في مصر وأصول ديانتهم.
وعرف رأفت كيف يميز بين اليهود الإشكانز والسفارد والشازيد، وحفظ عن ظهر قلب الشعائر اليهودية وعطلاتهم الدينية. وتدرب أيضاً على كيفية البقاء على قيد الحياة معتمداً على الطبيعة في حالة إذا ما اضطرته الظروف إلى الاختفاء فترة من الزمن. وتدربت بعد هذا على جميع عادات الشرطة السرية للعمل بنجاح متخفياً. وأخيراً بدأ في تقمص شخصيته الجديدة.
وأصبح منذ ذلك التاريخ جاك بيتون المولود في 23 أغسطس عام 1919 في المنصورة، من أب فرنسي وأم إيطالية. وأن أسرته تعيش في فرنسا بعد رحيلها عن مصر، وهي أسرة كانت لها مكانتها وميسورة الحال. وديانته هي يهودي إشكنازي. وتسلم وثائق تحمل اسمه الجديد والتواريخ الجديدة.
وهكذا انتهى رفعت الجمَّال رسمياً، ليولد جاك بيتون، الذي انتقل للعيش في الإسكندرية، ليقيم في حي يكثر به اليهود، ويحصل على وظيفة محترمة، في إحدى شركات التأمين. وبدأت ثقته في نفسه تزداد، وبدأ يتعايش كفرد من الطائفة اليهودية، التي قدمه إليها زميله في الحجز ليفي سلامة، والذي قضي معه بعض الوقت، عندما تم إلقاء القبض عليه عند الحدود الليبية.
وأثناء وجوده في الإسكندرية إنضم رفعت إلى الوحدة اليهودية (131)، التي أنشأها الكولونيل اليهودي "إفراهام دار" لحساب المخابرات الحربية الإسرائيلية، والتي شرع بعض أفرادها في القيام بعمليات تخريبية، ضد بعض المنشآت الأمريكية والأجنبية، على نحو يجعلها تبدو كما لو أنها من صنع بعض المنظمات التحتية المصرية، فيما عرف بعدها باسم فضيحة "لافون"، نسبة إلى "إسحق لافون"، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك.
وفي الوحدة (131)، كان "رفعت زميلاً لعدد من الأسماء، التي أصبحت فيما بعد شديدة الأهمية والخطورة، في عالم المخابرات والجاسوسية، مثل "مارسيل نينو"، و"ماكس بينيت"، و"إيلي كوهين"، ذلك الجاسوس الذي كاد يحتلّ منصباً شديد الحساسية والخطورة، بعد هذا بعدة سنوات، في سوريا.
وكان "حسن حلمي" ، ومن بعده "علي غالي" - وهو من تولَّى أمر رفعت، في مرحلة تالية - كانا يتابعان نشاط الوحدة (131) طوال الوقت، وأن معلومات رفعت التي كان ينتزعها، من قلب الوحدة، كانت سبباً أساسياً في إحباط العملية كلها، وإلقاء القبض على كل المشتركين فيها.
التجسس علي المجتمع اليهودي بالاسكندرية
تم إلقاء القبض على "رفعت" و"إيلي كوهين"، كأفراد في الوحدة (131)، ثم أطلق سراحهما فيما بعد، لعدم وجود ما يدينهما، فاختفى بعدها إيلي في حين بقي رفعت ليواصل الحياة لبعض الوقت، باسم جاك بيتون، الذي لم يتطرَّق إليه الشك حتماً، بدليل أن الإسرائيليين قد اتهموا عضواً آخر، من الوحدة (131) بكشف أسرارها، وهو "بول فرانك"، الذي حوكم بالفصل فور عودته إلى إسرائيل وصدر ضده الحكم بالسجن لاثني عشر عاماً.
وحتى ذلك الحين، كانت مهمة رفعت تقتصر على التجسُّس على مجتمع اليهود في الإسكندرية، ولكن عقب نجاح عملية الوحدة (131) تم استدعاؤه إلى القاهرة، ليلتقي بضابط حالته الجديد "علي غالي"، الذي واجهه لأوَّل مرة بأنه قد نجح تماماً في مهمته، وأن الخطة ستتطوَّر، لتتم الاستفادة به أكثر خارج الحدود، خاصة وأن سمعته، كفرد سابق في الوحدة (131) ستخدع الوكالات اليهودية، وستدفعها للتعامل معه كبطل.
بدأت جولة تدريب مكثف لرفعت فدرس تاريخ اليهود الأوروبيين والصهيونية وموجات الهجرة إلى فلسطين. وتعلم كل شيء عن الأحزاب السياسية في إسرائيل والنقابات والهستدروت أو اتحاد العمال، والاقتصاد والجغرافيا والطوبوغرافيا وتركيب إسرائيل.
وأصبح رأفت خبيراً بأبرز شخصيات إسرائيل في السياسة والجيش والاقتصاد. وأعقب هذا تدريب على القتال في حالات الاشتباك المتلاحم والكر والفر والتصوير بآلات تصوير دقيقة جداً، وتحميض الأفلام وحل شفرات رسائل أجهزة الاستخبارات والكتابة بالحبر السري، ودراسة سريعة عن تشغيل الراديو، وفروع وأنماط أجهزة المخابرات والرتب والشارات العسكرية. وكذلك الأسلحة الصغيرة وصناعة القنابل والقنابل الموقوتة. وانصب اهتمام كبير على تعلم الديانة الموسوية واللغة العبرية. واعتاد أن يسمع كل يوم ولمدة ساعات إلى راديو إسرائيل. بل وعمد إلى تعميق لهجتي المصرية في نطق العبرية لأنه نهاية الأمر مولود في مصر. بعد التدريب تحددت له مهنة حيث تقرر أن يكون وكيل مكتب سفريات حيث إن هذا
سيسمح له بالدخول إلى إسرائيل والخروج منها بسهولة، وتقرر أن يؤدي اللعبة
لأطول مدة ممكنة. فلم يكن لمهمته حد زمني، وكان له الخيار بأن يترك الأمر كله
إذا سارت الأمور في طريق خطر. وقيل له أنه يستطيع بعد ذلك العودة إلى مصر وأستعادة شخصيته الحقيقية. وتسلم رفعت مبلغ 3000 دولار أمريكي ليبدأ عمله وحياته في إسرائيل. وفي يونيو 1956 استقل سفينة متجهة إلى نابولي.
وصل رفعت إلى نابولي حيث التقطته الوكالة اليهودية هناك، وبذلت جهدها لإقناعه بالسفر إلى إسرائيل "أرض الميعاد"، كما كانت تقول دعاياتهم بمنتهى الإلحاح أيامها. ولم يبد رفعت أية لهفة على السفر إلى إسرائيل، إلا أنه لم يمانع بشدة في الوقت نفسه، وإنما جعلهم يعتقدون أنهم قد نجحوا في إقناعه، وتركهم يدفعونه إلى ظهر سفينة حملته إلى "إسرائيل".
الحياة في إسرائيل
عند وصول رفعت إلي إسرائيل استقبله فيها رجل مخابرات يُدعى "سام شوب"، واستجوبه بعض الوقت، ثم منحه تأشيرة إقامة، وجواز سفر إسرائيلي فيما بعد، مما يؤكِّد أن عملية المخابرات المصرية قد نجحت بالفعل.
بدأ "رفعت" حياته في إسرائيل بإنشائه لمكتب سفريات عام 1956 باسم "سي تورز"، في 2 شارع "برينر" في تل أبيب، وهكذا وجد من الناحية العملية تعاوناً تجارياً سرياً بين المخابرات المصرية التي مولت جزءا من تكلفة إقامة الشركة والشاباك التي ساهمت أيضا في تمويل الشركة.
وبدأت صداقته مع "موشي دايان" ومحاولات "سام شوب" التقرُّب إليه ودفعه الفاتنة "راكيل إبشتين" في طريقه، ومحاولاته هو لاكتساب ثقة "دايان" و"شوب"، و"عزرا وايزمان".
ومع اقترابه من مواقع الأحداث، علم "رفعت" بأمر العدوان الثلاثي قبل وقوعه، وعرف الكثير من تفاصيله، وسافر إلى روما وميلانو بالفعل، بعد ترتيبات دقيقة ليلتقي برؤسائه ويخبرهم بما لديه من معلومات، ولكن أحداً لم يصدّق، أو يقتنع بأهمية وخطورة تلك المعلومات، التي أتى بها رفعت من قلب إسرائيل ووقع العدوان الثلاثي علي مصر.
وفي عام 1957م، فوجئ رفعت بزيارة من "إيلي كوهين"، زميله السابق في الوحدة (131)، الذي سعى إليه، واستعاد صداقته معه، قبل أن يبدأ مهمته، التي سافر من أجلها إلى أمريكا الجنوبية للاندماج بمجتمع المهاجرين السوريين تمهيداً لزرعه في سوريا فيما بعد، والتي ساهم رفعت نفسه في كشف أمرها، عندما أبلغ المخابرات المصرية، أن صورة "كامل أمين ثابتط، التي نشرتها الصحف المصرية والسورية، إنما هي لزميله السابق، الإسرائيلي "إيلي حوفي كوهين".
إختار رفعت مكتبه السياحي لإقامة الجسر الجوي؛ لنقل يهود بيروت إلى إسرائيل، مما يؤكِّد
ثقة السلطات الإسرائيلية البالغة فيه، ووثق صداقاته وعلاقاته بقادة إسرائيل أمثال "ديان"، و"وايزمان" و"شواب"، ونظراً لصلة "ديان" الوثيقة بـ"بن جوريون"، فقد استطاع أن يكسب ثقة "بن جوريون" أيضاً، وأصبح عضواً في مجموعة الشباب المحيطين به، إذ كان يحب
أن يحيط به الشباب ويستمع لآرائهم وأفكارهم. أما "جولدا مائير" فكانت تتميَّز بأنها امرأة عطوف، وأبدت وداً شديداً نحو رفعت.
لم تحمل الفترة من 1959م، وحتى 1963م متغيرات قوية تستحق الإشارة إليها إلا حين أبلغ رفعت رئيسه "علي غالي" أثناء لقائه في "ميلانو" بإعتزام إسرائيل إجراء تجارب نووية، واختبار بعض الأسلحة التكنولوجية الحديثة.