«مولاي .. إني ببابك قد بسطت يدي»
لم أتصور هذه الجملة مكتوبة فدائما كان تصوري أنها خلقت لتسمع فقط! وكتابتها تقلل من حلاوتها وتسحب من رصيدها بعد أن اقترنت بصوت ساحر هو الشيخ سيد النقشبندي الرجل الذي لا يجوز ان تتحدث عن الإنشاد الديني دون أن تذكره بل إنني أعتقد أنه لولاه ما كان هناك إنشاد يمكن أن يقبل عليه الناس، فهو بمثابة علامة فارقة في تاريخ الإنشاد الديني، بل إنه يعد مدرسة متفردة ومنفردة ولم يقترب أحد منها إلا بالتقليد الذي يبتعد تماما عن الأصل. الاحتفاء بالشيخ سيد النقشبندي ليس احتفاء بشخص مؤثر أو منشد موهوب وإنما هو احتفاء بالفن في الإسلام، وبالشخصيات التي جعلت من الفن متعة ينتظرها الناس بشغف ورسالة خالدة تبقي مهما مر عليها الزمن لأنها رسالة صادقة بصوت تشعر فيه بالدفء والإخلاص وبالفن والذوق والإحساس .. وهذا سر استمراره وانتشاره .
الميلاد
34 عامًا مرت علي وفاة الشيخ سيد النقشبندي، زاد في كل عام فيها شهرة ونجومية، كانت أكبر مما حظي به في حياته، حتي إن نشيده الشهير « مولاي .. إني ببابك» أصبح أكثر نغمات الهاتف المحمول استماعًا.
كما ارتبط صوت الشيخ النقشبندي بشهر رمضان ارتباطًا وثيقًا، و ما أن نسمع صوته وهو يتضرع إلي الله بالابتهالات والأدعية مبتهلا بعد كل أذان، حتي نعرف أننا بدأنا بالفعل صيام شهر رمضان.
ولد الشيخ سيد النقشبندي في قرية دميره مركز طلخا في 12 مارس عام 1921 ثم انتقل مع أسرته إلي مدينة طهطا محافظة سوهاج حيث التحق بكتاب الشيخ أحمد خليل واستكمل تعليمه حتي المرحلة الثانوية.
بدأ حياته العلمية كقارئ للقرآن الكريم وهي الوظيفة التي كانت مدونة بجواز سفره، ثم احترف الإنشاد الديني حتي حفظ المصريون ابتهالاته وكانت بدايته عام 1943وعمره 22 عاماً ، وبعدها انتقل إلي مدينة طنطا عام 1955 ليبقي بجوار مقام سيد أحمد البدوي وقد ذاع صيته أيضًا في الوجه البحري، وفي نقلة نوعية بدأ في إحياء الاحتفالات الدينية في الدول العربية والإسلامية ابتداء من عام 1959 ومن هذه الدول السعودية ، سوريا ، لبنان ، العراق ، الإمارات ، الكويت ، ثم إلي أندونيسيا في قلب آسيا وأثناء إحياء النقشبندي إحدي الليالي الدينية في الحسين عام 1966 وما أن سمعه الإعلامي أحمد فراج حتي قدمه للناس في برنامجه الشهير « نور علي نور » حتي أصبح من أشهر المنشدين، وبدأ تسجيل ابتهالاته وأدعيته في الإذاعة والتليفزيون. وكان أول أجر تقاضاه عن أول حفلة أحياها عام 1943 هو «100» قرش فقط.
أثناء حرب الاستنزاف بعد 1967 شارك في رفع الروح المعنوية لجنودنا علي الجبهة حتي جاء نصر أكتوبر عام 1973 .
وكان علي علاقة صداقة مع الرئيس السادات بدأت هذه العلاقة عندما اصطحبه د . محمود جامع معه لإحياء ليلة دينية في قرية ميت أبو الكوم وبعدها استمرت علاقته بالسادات حتي وفاته، وكان النقشبندي أحد مقرئي القرآن الكريم في عزاء والد الرئيس في أوائل السبعينيات.
وكان النقشبندي أيضا ضمن من أحيوا حفلة زواج ابنة الرئيس السادات وأثناء حضور الملحن الكبير بليغ حمدي الحفل طلب السادات منه تلحين ابتهالات للنقشبندي فلحن له « مولاي ، أقول متي ، ياليلة في الضهر) كما لحن له كبار الملحنين مثل محمد الموجي ، سيد مكاوي ، أحمد صدقي ، محمود الشريف ، حلمي أمين وعبد العظيم عبد الحق ، وكتب له الابتهالات كبار الكتاب والشعراء منهم عبد السلام أمين ، عبد الفتاح مصطفي ، محمد علي ماهر وهو أحد من شاركوا في كتابة فيلم الرسالة .
أنجب النقشبندي ثمانية أبناء ويحاول الابن الأكبر أحمد الذي يبلغ عمره 61 عامًا جمع تراث والده واستطاع أن يحصل علي تسجيلات نادرة ، كما يتمتع الحفيد أحمد شحاتة نجل ابنة النقشبندي بصوت يشبه إلي حد كبير صوت جده وموهبته في الابتهال.
توفي الشيخ سيد النقشبندي في 14 فبراير 1976 عن عمر يناهز 55 عاماً ، مخلفًا وراءه رصيداً ضخماً من الابتهالات والأدعية الدينية التي لانزال نستمتع بسماعها والتأمل في معانيها حتي اليوم.
مذكراته بخط يده
« من احتفظ بمفكرة.. انتظمت حياته وأعماله» .. هذه الحكمة البليغة كانت
ناظمة لحياة الشيخ سيد النقشبندي، فقد كان حريصًا علي تدوين مذكرات يومية في مفكرات بحجم كف اليد، هذه المذكرات هي اليوم بمثابة تأريخ لتفاصيل دقيقة في حياته وجولاته في محافظات مصر المختلفة والتي تنوعت بين سهرات رمضانية ومآتم وليالي الأربعين والذكري السنوية التي كان يدعي إليها الشيخ لإحيائها بتلاوة القرآن الكريم والابتهالات الدينية، كما كان حريصًا علي تدوين تفاصيل الحفلات التي قام بإحيائها في عدد من الدول العربية والاسلامية ولقائه عددًا من الشخصيات المهمة مثل العاهل السعودي الراحل الملك فيصل، كما شملت أيضا إشارات لصداقاته ومعارفه المتعددة فقد كان رحمه الله ذائع الصيت ومحل احترام وتقدير من جانب كل من عرفوه وتعاملوا معه ولمسوا فيه دماثة حسن الخلق والمعشر.
في بعض أوراق مذكراته يكشف الشيخ النقشبندي بتواضع عن علاقته بنجوم الفن ورجال السياسة وعلي رأسهم الرئيس الراحل أنور السادات الذي كان علي علاقة وطيدة به حتي وفاته، حتي إن النقشبندي سجل تاريخ وفاة والدة السادات في مذكراته بتاريخ الخميس 1 يوليو 1970.
وفي إحدي أوراق مذكراته بتاريخ 11 مارس كتب يقول « شاهدت مساء رواية اجتماعية تحض علي الاستقامة للأستاذ الكبير يوسف بك وهبي واسمها «ابن الحداد». ولم ينس الشيخ أن يدون جانبًا من اهتماماته وهواياته فكتب في اليوم التالي يقول« قضيت عصره في صيد الحمام مع حضرة علي أفندي عبده وكان يومًا لا بأس به».
الأشعار والخواطر كان لها النصيب الأكبر من مذكرات النقشبندي ففي رأس صفحة تحمل تاريخ 17 محرم 1364 كتب « جمود العين من قسوة القلب.. وقسوة القلب من كثرة الذنوب.. وكثرة الذنوب من نسيان الموت .. ونسيان الموت من طول الأمل .. وطول الأمل من حب الدنيا وحب الدنيا رأس كل خطيئة».
وعن رحلاته خارج مصر كتب الشيخ يوم الجمعة 20 فبراير 1970 عن رحلته إلي المملكة العربية السعودية : صلينا الجمعة مع الأستاذ أحمد جمال بمسجد الزهراء بمكة المكرمة..كانت مقابلة جلالة الملك فيصل اليوم تمتازبالتواضع الجم وعدم التكليف.
وفي يوم 23 فبراير 1970 كتب: اليوم كنت بالإذاعة والتقيت السيد عبدالصمد التبياني وكيل وزارة الإعلام.
وفي اليوم التالي كتب : سجلت لتليفزيون جدة أربعة شرائط قرآن كريم ابتهالين ثم سافرنا إلي المدينة المنورة.
كان النقشبندي حريصا علي مشاركة الفرق الصوفية في إحياء ليالي المولد النبوي وكتب في يوم 30 يناير 1947 « اليوم بسوهاج للاشتراك مع إخوتي في الطريقة الخلوتية الأغراء بروضتهم العامرة في إحياء ذكري سيد الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم .. كانت ليلة طيبة مباركة ، ألقيت علي مسامع القوم القرآن الكريم وقصيدة « مالي والنجم»،«عبرة»، « سلوا قلبي».
عثرنا في المذكرات علي تدوينتين للشيخ تروي قصة رؤيتين رآهما اثنين
من أصدقائه فكان حريصا علي كتابتهما نظرا لاعتقاد الشيخ أن بهما حكمة عظيمة..
الرؤية الأولي كان نصها كالتالي: الأخد الشيخ طه السيد اسماعيل، من السنطة دقهلية، قص علي رؤية رآها بعد انصرافه من مجلس حفل مولانا الحسين لسنة 92 ، قال إنه ترك الوصلة الثانية لضرورة وذهب إلي بيته ورأي في نومه أن قوما كانوا يضربونه ويقولون له لم تركت مجلسا يحضره رسول الله صلي الله عليه وسلم . قص علي هذه الرؤية في بلدة السلامية في مأتم كنت فيه.
الرؤية الثانية قال فيها: رؤيا منامية للشيخ أحمد عبدالعظيم علوان .. رأيت في شهر ربيع الأول بأنك بالأراضي الحجازية وبصحبتك أربعة أشخاص في ملابس أمراء الحجاز، فسألت أحدهم هل هذا هو الشيخ سيد النقشبندي فأجابني قائلا هو حضرة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم، فاستيقظت وأنا أصلي عليه صلوات الله وسلامه عليه. من إملاء الشيخ أحمد عبدالعظيم علوان ، من أحباب الشيخ النقشبندي.
وفي الصفحة الأخيرة من أحد دفاتر مذكراته يقول الشيخ النقشبندي« الرزق الذي ساقه الله إلينا في هذه السنة المباركة مبلغ وقدره 271 جنيهاً- مائتان وواحد وسبعون جنيها مصريا- كما هو مدون بالمفكرة والحمد لله الوهاب.
شقة إيجار بالمساكن الشعبية
في البلوك رقم 4 الدور الرابع من بلوكات المساكن الشعبية في منطقة قحافة بطنطا يعيش ورثة الشيخ سيد النقشبندي داخل شقة صغيرة بالإيجار منحها لهم محافظ الغربية السابق أحمد القصبي عام 1974 بعد أن أصبحت الشقة التي كان يستأجرها الشيخ النقشبندي بجوار مقام السيد البدوي آيلة للسقوط.
ومنذ وفاة الشيخ عام 1976 لم تفكر أي من الحكومات المتعاقبة في منح ورثة الشيخ معاشا شهريا ، أما الأدعية والابتهالات المسجلة والمصورة تليفزيونيا فقد أصبحت مشاعا منهوبا لجميع القنوات التليفزيونية الفضائية والأرضية إضافة إلي المحطات الإذاعية ينتفعون من إعادة البث دون أن يعود علي ورثته أي عائد مادي في حين تنتفخ جيوب المستفيدين من بث هذه المواد التليفزيونية النادرة.
ويقول أحمد سيد النقشبندي النجل الأكبر للشيخ النقشبندي : والدي لم يكرم في حياته ولم يحصل ورثته علي معاش بعد وفاته، رغم أن أدعيته وابتهالاته المسجلة مشاع علي المحطات الفضائية إلا أن ذلك دون أي عائد مادي وفق حقوق الأداء العلني التي أقرها القانون .
ويضيف: لقد أصبح تراث الشيخ نهباً لجميع وسائل الإعلام في مصر والوطن العربي يكسبون منها الأموال باستثناء عائلته وورثته الذين لم يترك لهم الشيخ من متاع الدنيا ملكا أو عقاراً بل شقة ايجار بالمساكن الشعبية.
وعن أملاك الشيخ النقشبندي قال الابن : عاش والدي وتوفي وهو لا يملك شبرا واحدا وعندما حاولنا التقدم للحصول علي حقوقنا المادية من بعض القنوات الفضائية والمحطات الإذاعية قالوا لنا إن الشيخ لم يكن عضوا في جمعية المؤلفين والمبدعين والملحنين في باريس وبالتالي ليست له أي حقوق .
وأضاف لقد جمعت تراث الشيخ من المحبين في مصر والوطن العربي والإسلامي كي أحافظ عليه و أؤكد أن كل من ولدوا بعد وفاة الشيخ حتي اليوم يعرفونه ويحفظون ابتهالاته ولكن الحكومة لم تساعدنا .
وطالب نجل النقشبندي وزيري الإعلام والثقافة بجمع تراث الشيخ وما تم تصويره بالتليفزيون المصري ولم ير النور إلا مرة واحدة
والتراث الذي تم تصويره ابتداء من عام 66، لكنه للأسف اختفي واندثر ولم نره معروضا علي الشاشة، وكذلك حفظ حقوق الورثة المادية في حق الأداء العلني.
وأخيراً قال إن من يدعون أننا في عصر حقوق الإنسان فليظهروا كرامة ويعطونا أمارة ويعيدوا إلينا ما نهب من حق الأداء العلني لورثة الشيخ النقشبندي.