انتخابات مصرشكلية لا فعلية
كتب / اشرف مصباح
هل مصر تتحول باتجاه الديمقراطية، بفعل الانتخابات العامة التي تجري الآن، ملامح التجربة الحالية التي تمر بها البلاد مدخلاً لفهم ما قد يحدث في الأعوام القليلة المقبلة.
من الخلل اختزال التجربة الديموقراطية في مصر، في مجرد إجراء انتخابات عامة، يراها بعضهم نزيهة مقارنة بسابقاتها، ذلك أن اختزال «الفعل» الديموقراطي في مجرد استخدام الحق التصويتي، يعد انتكاسة حقيقية للتطبيق العملي لمفهوم الديموقراطية. إلا أن هذه الانتخابات كشفت، بأجوائها الساخنة ورهان الكثيرين عليها، حجم «المحنة» الديموقراطية التي تعيشها مصر على مستوياتها النخبوية والجماهيرية.
وعلى رغم تجذر هذه المِحنة وامتدادها لأكثر من نصف قرن تراجع فيه الجميع (النظام والقوى السياسية والشعب) عن ممارسة قواعد الديموقراطية في إدارة الصراع والحوار، فإن الانتخابات الحالية قد تعد أول اختبار حقيقي للتحول الديمقراطي الذي بدأ رسمياً أواخر سبعينات القرن الماضي ووصل الآن إلى أكثر أيامه مخاضاً. ويمكن قراءة ملامح هذه المِحنة من خلال التعرض لمواقف الفاعلين في «معركة» الانتخابات الحالية ورؤية كل منهم للحظة «الانفتاحية» التي تعيشها مصر الآن.
فـ»الحزب الوطني الديمقراطي» الحاكم الذي ينظر بعض قياداته للإصلاح بوصفه وسيلة للبقاء، أكثر منه أداة لترسيخ الديموقراطية، دخل الانتخابات معتمداً على شعبيته «المليونية» وطامعاً في تحقيق غالبية مريحة، معتقداً بأن مؤتمراته السنوية التي عقدت في السنوات الثلاث الماضية أحدثت التغيير المطلوب، ومحت كثيراً من الانطباعات السلبية تجاه ممارسات نفر من أعضائه خصوصا في المستويات القاعدية.
وقامت خطة الحزب على إجراء انتخابات نزيهة، مقارنة بسابقاتها، وكان مفترضا أن تحقق هذه النزاهة مكاسب عدة، أولها لجم الضغط الخارجي المتربص بهفوات النظام، وثانيها توجيه لكمة «قاضية» لوجو الحزب المألوفة والتخلص منهم عبر صناديق الاقتراع، وهو ما تحقق جزء منه في المرحلتين الأولي والثانية، وثالثها الرغبة في تدشين شرعية «أنيقة» للنظام يمكنها أن تحل تدريجا محل «شرعية ثورة يوليو»، ورابعها إجهاض المطالب الحقيقية بالتغيير وخامسها، البحث عن لون جديد من المعارضة السياسية داخل البرلمان، يتم تفصيله بحيث لا تشكل تهديداً للهيكل الأساسي للنظام، وتعطي في الوقت نفسه إيحاءات بحيويته وتوجه رسائلها للداخل والخارج بأن ثمة تغييراً يحدث في مصر.
دخل الحزب جولات الاقتراع بحياد أمني، أضر أكثر مما أفاد، فلم يكن نابعاً من الرغبة في إعمال مبدأ حرية الاختيار وعدم التأثير في إرادة الناخبين بقدر ما كان يستهدف جس النبض في المرحلة الأولى للانتخابات، فإذا ما توافقت النتائج مع الطموحات، يتم التعميم في المراحل اللاحقة. ومن دون الخوض في تفاصيل نتائج المرحلتين الأولى والثانية، والتي كشفت مدى الانفصام بين الحزب وقاعدته «المليونية»، فإن ما حدث من أعمال عنف، أثبت أن ثمة قصوراً في الرؤية والتطبيق لمعنى النزاهة والحياد الأمني. وبدا الأمر وكأن الحزب الوطني لا يتحمل السقف الديمقراطي الذي وضعه بنفسه عشية الانتخابات، فمع أول تهديد لشرعية الحزب، بعد صدمة حصول جماعة «الإخوان المسلمين» على نحو 20 في المئة من المقاعد، لجأ بعض أنصاره إلي انتهاج العنف «المنظم» وسيلة لإيقاف المد الإخواني خصوصاً في محافظات الشمال، مما حدا ببقية المرشحين للجوء إلي الأساليب نفسها. وبدا الأمر وكأن الحزب لا يريد أن يرى مخرجات للعملية السياسية تتنافى مع تلك المألوفة في الانتخابات السابقة، في تجاهل لحجم النقلة النوعية التي شهدتها مرحلة ما بعد 26 شباط (فبراير)، بعد إقرار التعديل الدستوري للمادة 76 وكسر أحد تابوات الجمود السياسي في البلاد.
معارضة مشلولة
الطرف الثاني في هذه المِحنة يتمثل في أحزاب المعارضة المصرية، التي تعد الخاسر الحقيقي، فهي لم تستعد لخوض التجربة الانتخابية بالشكل المطلوب، وربما لم تكن تتوقع أن تتم الانتخابات بهذا القدر المعقول من الحياد والنزاهة. بيد أن المشكلة إجمالاً ليست في ضعف أداء المعارضة في حد ذاته، بقدر ما هي في طبيعة النظام الحزبي الذي لم يعط الفرصة لأي حزب، باستثناء الحزب الوطني، لإثبات الوجود.
وربما وقعت أحزاب المعارضة في أخطاء قللت من حجم وجودها في الشارع المصري، بيد أنها تعرضت أيضا لعمليات «إقصاء» متعمدة من جانب الحزب الحاكم الذي هيمن على المشهد السياسي برمته طيلة العقدين الماضيين. ويكفي أنها لم تكن لتقوى قبل عام مضى علي تنظيم تظاهرة «سلمية» لإعلان موقف بعينه أو للمطالبة ببعض حقوقها الدستورية مثل حق الاجتماع وعقد المؤتمرات وحرية التعبير في وسائل الإعلام المملوكة للدولة. ولم يتعاط الحزب الحاكم مع الأحزاب الأخرى بوصفها أحزاب معارضة بقدر ما مثلت له «كانتونات» صغيرة تهدف لتحقيق مصالح فئوية خاصة بأعضائها كحصة في البرلمان أو جزء من موازنة الدولة، أو ترخيص لإصدار صحيفة. وفي ظل هذا الوضع قام الحزب الحاكم بدور «الراعي» لأحزاب المعارضة.
ومن المفارقات أن يختزل بعضهم أحزاب المعارضة في الأحزاب الثلاثة الكبرى، (الوفد والتجمع والعربي) وكأنه لا يوجد في مصر 15 حزباً غيرها، ولم يتساءل البعض عن أحزاب «الظل» التي ملأت الدنيا ضجيجاً إبان الانتخابات الرئاسية التي جرت أوائل أيلول (سبتمبر) الماضي.
«الاخوان»: أزمة ثقة
أما الطرف الثالث في مِحنة الديمقراطية الراهنة فهو جماعة «الإخوان المسلمين». فبغض النظر عن فوزهم الكبير في الانتخابات أثبتت التجربة الراهنة عدم قدرتهم على حمل مسؤولية بلد بحجم مصر، ذلك أنهم كانوا، ولا يزالون، يختزلون أحلامهم في مجرد الحصول على صك الشرعية من خلال وجود حزب سياسي يمثل مصالحهم في البرلمان. ولم يدخلوا الانتخابات من باب الرغبة في التغيير، خصوصاً أنهم لم يقدموا جديداً يختلف عما قدمه بقية المرشحين من القوى السياسية الأخرى بما فيها الحزب الوطني، بقدر ما كانت رغبتهم في التحدي وإثبات الوجود.
وقصور في الرؤية أن يعتقد بعض قياديي الجماعة بأن حصادهم البرلماني سيشكل مصدر قوة لهم، بقدر ما يحمل معه من تحديات حقيقية لقدرة الجماعة على ترجمته برنامج عمل ينطلق من أرضية سياسية قد لا تنسجم وأهداف الجماعة الدعوية. وما زالت مفاهيم الديمقراطية كالحرية والتعددية والمواطنة تلقي تضاربا وتشوشاً لدى قيادات الجماعة، فضلاً عن فهم بعضهم لمعنى «الدولة المدنية»، وهي إشكالات لا تصب بحال في مصلحة التحول الديمقراطي.
ومن السذاجة أن يعتقد بعض «الإخوان» بأن حصولهم علي عدد غير مسبوق من المقاعد النيابية مؤشر على حجم التأييد في الشارع المصري، فمن صوت في المراحل الأولي للانتخابات لم يتعد ربع الهيئة الناخبة، غالبيتهم من أعضاء «الجماعة» والمنضوين تحت لوائها.
«تخندق» الجماعة حول نفسها طيلة 75 عاماً يتطلب منها جهداً إضافيا لخلخلة مفاهيم الشك وانعدام الثقة لدى بقية الأطراف السياسية حول نوايا الجماعة، وهو رهن بقدرة قيادات الجماعة على بلورة مشروع مدني حقيقي بعيداً من شعارات «الأسلمة» ودغدغة مشاعر المواطنين. و»الاخوان» الذين يتعرضون الآن لحملة تشويه منظمة ربما تصب في مصلحتهم لاحقاً، يقفون الآن على أعتاب مرحلة مهمة في تاريخهم الطويل، وتحدهم خيارات مصيرية بين البقاء تحت الأرض أو الخروج للعمل المنظم.
ويبقى الطرف الرابع في مِحنة الديموقراطية ممثلاً في ضعف الخيال السياسي لدي الهيئة الناخبة المصرية، وهو وضع تتداخل فيه عوامل عدة، بعضها تاريخي والأخر ديني، ذلك أن عجز المجتمع عن الالتزام بأدني قيم الديموقراطية وأهمها «السلامة المدنية» للمرشحين والناخببن يعني أن هناك خللاً عميقاً في فهمه للديموقراطية، ساهمت فيه تصرفات وسلوكيات القوى السياسية في مصر عبر تناحرها المتواصل، ورفع حال الاستقطاب، بحيث أضحي التنافس السياسي مفتوحاً لكل أشكال العبث والفوضى السياسية. وهو ما يصعب تصوره في بلد مارس الديموقراطية في أحلك الظروف أوائل القرن الماضي، ولم يمر بالتوترات والاحتقانات نفسها التي وصلت حد الاقتتال من أجل المقعد النيابي، وهو بقدر ما ينطوي على حجم الجهالة التي أصابت الشارع السياسي المصري، بقدر ما يعكس حجم «الجفاف» السياسي الذي يعاني منه كثيرون في مصر.
أحداث العنف ليست المشكلة في حد ذاتها، وإنما هي في ثقافة «التكالب» علي التصويت من أجل السلطة بوصفها مصدراً للقوة والحصانة، وليس من أجل الديموقراطية كمصدر للشرعية. وأغلب من ذهبوا للتصويت لم يفعلوا لحرصهم علي المشاركة واستخدام حقهم الدستوري في التصويت، أو اقتناعاً بدوره في التغيير، بقدر ما كان استجابة لعوامل أخرى بعضها أخلاقي وديني، وبعضها مادي ومصلحي.
ولعل أفضل ما جاءت به الانتخابات الحالية أنها أبطلت المقولة المركزية للممارسة السياسية في مصر وهي أن «الإصلاح لا بد أن يأتي من أعلى»، فما حدث أخيراً يشي بأن الإصلاح لا يتوقف على جهة محددة أو حزب بعينه وإنما علىي إرادة القوى السياسية الراغبة في التغيير.
ربما لا تتوقف نجاعة التقويم الكلي للتجربة الحالية في مصر، عند مجرد معرفة الخريطة السياسية للبرلمان المقبل، بيد أن ما يحدث الآن ينبئ بأن هناك خللاً عميقاً في فهم الفكرة «الديموقراطية» لدى مختلف الأطراف يتطلب جهداً وعرقاً حتي تبدأ عجلة التغيير الحقيقي في الدوران، بدلا من أن تصبح مجرد ضجيج بلا طحين
[