واصل موقع "ويكيليكس" هوايته في كشف خبايا السياسة الأمريكية وفضائحها، وفي الحلقة الثالثة من هذا المسلسل الذي شهد من قبل فضائح القوات الأمريكية في التعامل مع ملفي العراق وأفغانستان، جاءت الفضائح في صورة دبلوماسية بحتة.
الملفات الجديدة التي صرّح موقع "ويكيليكس" بأنها بحوزته منذ أكثر من أسبوع، يفوق عددها 3 ملايين مستند، جاءت هذه المرة لتفضح خفايا الدبلوماسية؛ سواء الاتصالات السرية التي تمّت مع زعماء العالم بأسره، أو حتى المراسلات والمكاتبات التي كانت بين الخارجية الأمريكية من ناحية، والسفارات الأمريكية حول العالم من ناحية أخرى التي اتخذت صورة تقارير تجسّس، تتحدّث عن تقييم لرؤساء ووزارء وشخصيات سياسية بارزة في عدد من دول العالم.
نشر "ويكيليكس" أول دفعة من هذه المستندات أمس (الأحد) والتي بلغ عددها 250 ألف وثيقة سرية، وكانت أهمها قطعاً تلك الوثيقة التي تفيد أن العاهل السعودي ألحّ بشدة على أمريكا بضرورة ضرب إيران، قبل أن تستفحل قواها النووية، وتفرض المزيد من نفوذها في العراق، وهو ما يسبب تهديداً صريحاً للمصالح السعودية في المنطقة، وإحقاقاً للحق لم تميّز المراسلات الأمريكية بين العرب وإسرائيل، فبعد أن اعتذرت أمريكا لإسرائيل مؤخراً عما يمكن أن تسبّبه الوثائق السرية من حرج للدولة العبرية، فها هي الوثائق تؤكّد على وجود رغبة إسرائيلية في القيام بضربة عسكرية لإيران بشكل منفرد دون إذن أمريكي مسبق.
رغبة إسرائيل في القضاء على قدرات إيران النووية التقت مع رغبة مماثلة سعودية؛ إذ نُقل عن "عادل الجبير" -السفير السعودي في واشنطن- في اجتماع مع الجنرال "ديفيد بترايوس" في إبريل 2008 رغبة السعودية في "قطع رأس الحية"؛ كما جاء على لسان العاهل السعودي وفقاً للوثائق.
إيران كانت محور عدة رسائل أمريكية أخرى أشارت إلى أن مسئولين في الأردن والبحرين تحدّثوا بصراحة عن ضرورة ضرب إيران بأي طريقة حتى عبر القوة، وأشار مسئولون إماراتيون ومصريون إلى إيران على أنها "الشرّ" وتمثّل "تهديداً وجوديا" عليهم، وأنها القوة التي "تجرهم للحرب"، كما حملت الوثائق الأمريكية السرية تصريحات عربية معادية لإيران؛ مثل قول العاهل السعودي: "لا يمكن الوثوق بهم"، وتفضيل مسئول إماراتي رفيع للحلّ العسكري ضد إيران، وقال في مقابلة مع مسئول أمريكي: "الرئيس الإيراني أحمدي نجاد يريد جرّنا للحرب، وشخصيا لا أتحمّل هذا الخطر مع شخص كهذا، فهو شاب وعدواني"، فيما طالب العاهل البحريني اتخاذ موقف قوي لوقف المشروع الإيراني ولو بالقوة العسكرية.
البرقيات التي تحمل تصنيفا سريا لم تتحدّث فقط عن المثلث العربي - الإسرائيلي - الإيراني، بل طالت أبرز الحلفاء؛ فجاء الانتقاد لكل مِن الحكومة والعائلة المالكة في بريطانيا، والمستشارة الألمانية ووزير خارجيتها، ورئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برليسكوني، والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، وهي الانتقادات التي تراوحت بين تقييم وعدم رضا عن السياسات والقرارات التي يتخذها حلفاؤها انتهاءً بالحديث عن تصرّفات غير مناسبة، الرسائل تطرّقت أيضاً إلى علاقة أمريكا بكل من الصين وكوريا الشمالية، والقلق الأمريكي على الاستقرار في باكستان لما لديها من أسلحة نووية.
البرقيات حملت أيضاً تشبيهاً للرئيس الروسي السابق "بوتين" بـ"ال..... ألفا"، وتعليقاً عن الرئيس الأفغاني حامد كرازي بأنه مصاب بالبارانويا وشبهت "نجاد" بهتلر، كما تحدّثت عن اصطحاب "القذافي" معه في كل مكان ممرضة أوكرانية بشكل يثير الريبة، ووصف الرئيس الروسي الحالي ديمتري ميدفيديف بأنه "ضعيف ومتردد"، بجانب التشكيك في نوايا رئيس الوزراء التركي، وجاء الحديث عن القيادة الكينية بازدراء تام، وأشارت رسالة إلى طلب واشنطن من سفارتها في إيطاليا التحقيق بشكل سري في شائعات تتحدث عن تعاملات تجارية سرية بين بيرلسكوني وبوتين.
وبعيداً عن الدول، جاء في الوثائق أيضاً توجيه هيلاري كلينتون -وزيرة الخارجية الأمريكية- أوامر لدبلوماسيين أمريكيين بجمع معلومات عن الأمين العام للأمم المتحدة وكبار مساعديه ومندوبي الدول الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن، كما أمرت بجمع معلومات عن قادة "حماس" والسلطة الفلسطينية، علاوة على ضرورة معرفة قدرات جهازي المخابرات والاستخبارات العسكرية الفلسطينية؛ وفي توجيه آخر لدبلوماسيين أمريكيين بدول إفريقية طلب منهم معلومات عن البصمة الوراثية DNA وبصمات أصابع مسئولين بعينهم، كما سعت الولايات المتحدة إلى جمع معلومات عن العلاقة بين وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين "أونروا" وحركة "حماس" الفلسطينية و"حزب الله" اللبناني.
الخارجية الأمريكية طلبت أيضاً التعرّف على خطط وكالات الأمم المتحدة، بشأن تحقيقات كانت ستجريها حول مسائل تتضمن إحراجا للولايات المتحدة في أفغانستان والعراق ومعتقل جوانتانامو.
يأتي هذا التسريب للوثائق كأكبر عملية تسريب للوثائق في التاريخ، والتي وجّهت ضربة مباشرة وموجعة للدبلوماسية الأمريكية، والتي طالما اتخذت السفارات كجزء من شبكة التجسس العالمية التي تديرها وزارة الخارجية والحكومة الأمريكية ككل.
الوثائق الأخيرة وجدت طريقها على صدر صفحات كبرى الصحف العالمية، التي أفردت للوثائق وملخصاتها الكثير من الصفحات، فكان الاهتمام جلياً في الصحف الخمسة التي تتمتع بحق نشر الوثائق حصريا؛ وهي: "لوموند" الفرنسية، و"الجارديان" البريطانية، و"نيويورك تايمز" الأمريكية، و"دير شبيجل" الألمانية، و"الباييس" الإسبانية، ويمكن القول لدى متابعة مدى اهتمام الصحف العالمي والرأي العام العالمي بهذه الوثائق السرية وما جاء فيها إن تسريب هذه الوثائق يضع الدبلوماسية الأمريكية في مأزق كبير بشكل يمكن معه تقسيم الدبلوماسية الأمريكية إلى حقبتين، وهما ما قبل نشر الوثائق وما بعده، إذ سيساهم النشر في كشف عملاء الولايات المتحدة، ويضعها في وضع لم تتخيل يوماً أن تكون موجودة فيه، ولذلك قامت وزيرة الخارجية الأمريكية بالاتصال يوم الجمعة الماضي بروسيا والمملكة العربية السعودية وفرنسا وتركيا والصين؛ في محاولة لشرح الموقف الأمريكي والاعتذار بصورة غير مباشرة.
ويُعتقد أن هذه الرسائل والوثائق الأمريكية "الحساسة" تم تسريبها عبر جندي أمريكي، كان بحكم موقعه قادراً على الوصول إليها والاطّلاع عليها، فقام بجمعها وتمريرها إلى موقع "ويكيليكس"، مشكّلا أكبر أرشيف إلكتروني في التاريخ، عن الدبلوماسية الأمريكية في الخارج، وأيضاً عن العمليات والاستراتيجية الأمريكية في كل من أفغانستان والعراق.
الإثنين 29 نوفمبر - 20:34:03
