الكاتب الباحث وليام فولمان يقدم لنا في كتابه الجديد بحثا ميدانيا وفلسفيا في آنٍ، حول مسألة العنف في العالم. وهي قضية تقض مضجع العالم بأسره. كتابه الجديد مرجعية في المجال؛ لكون هذا الكتاب عبارة عن شهادات حية معاصرة، ومراجعة تاريخية وفلسفية تحليلية منقطعة النظير. باختصار: إنه كتاب بل موسوعة في العنف منقطعة النظير.
"يتوجب عليّ بلا ريب أن أشكر أسامة بن لادن.." هكذا يبدأ "كتاب العنف". هذا الكتاب، بل الوثيقة التاريخية غير القابلة للتصنيف، الصادر حديثاً للروائي والباحث كاتب المقالات والمراسل الصحافي الأميركي وليام. ت. فولمانWilliam T. Vollmann مؤلف كتاب "بنادق". هذا الكاتب الذي يعشق رمي الحجارة في مستنقع الشياطين.
من سنة واحدة فقط نشر تحقيقا رائعا تحت عنوان "لماذا أنتم فقراء؟". يعجز هذا الكاتب عن كبح نفسه من المغالاة. وبعدها نشر عدة روايات ضخمة، فإن "وحش الشغل" هذا الشغال المكد الغزير، يقدم لنا الف صفحة جديدة من كتابه هذا الذي كان منتظَرا بفارغ الصبر.
والحق إن الترجمة الفرنسية من الكتاب قد قامت باختصاره الى ألف صفحة، إذ إن النسخة الأميركية هي عبارة عن ستة مجلدات. العنوان الأصلي الأميركي لهذا الكتاب هو الصعود والصعود نزولا"، فيما آثر الفرنسيون عنونته "كتاب العنف" والتي نعتمدها في هذه المقالة؛ لكونها أقرب وأوضح دلالة.
يبرر الكاتب فولمان الاختصار في النسخة الفرنسية في مقدمة كتابه، قائلا "كان ينبغي أن يكون طويلا كما هو". وهذا الكاتب المستفز المتحدي يضيف أنه قَبِلَ "من أجل المال" إنقاص وتصغير حجم كتابه، "إن النسخة الطويلة من الكتاب اقتضت مني لإنجازها 23 سنة، أما النسخة المختصرة فاقتضت نصف ساعة". إن السخرية الحادة هي جزء من شخصية هذا الكاتب، لكن هذا لا يحجب البتة جدية مشروعه.
هذا الكاتب اللانموذجي يخلط ويمزج الأنواع الكتابية باستمتاع في هذا العمل الإنجاز، الذي سوف يبقى تحفته الكتابية الأهم حتى الآن. فهو عبارة عن بحث سوسيولوجي تاريخي وفلسفي، وتُكمِله وتتكامل معه سلسلة من الريبورتاجات والتحقيقات في البلاد التي تعاني نزاعات. إذ إن طموح فولمان هو معالجة كل أنواع العنف البوليسية منها والعسكرية والإرهابية والانتحارية، وذات طابع الدفاع عن النفس، الى الانتقام وحتى الجريمة والعقاب. من غير أن ننسى اللاعنف لدى غاندي.
يقول فولمان "لقد اخترت رحابة المعرفة وكثرتها، وليس عمقها" كما لو أنه يعتذر. فولمان كاتب شغف بالأسلحة النارية وأيضا شغف بمسألة العنف منذ أمد بعيد، إنه يتطرق اليها في كل كتبه، وإن معرفته وثقافته في هذا المجال لواسعة جدا، وأيضا أفكاره وتأملاته فيها.
القسم الأول من الكتاب الفريد من نوعه يتطرق الى العنف وتبريره بطريقة نظرية، فهذا الكاتب الحائز على دبلوم في الأدب المقارن يقدم لنا بانوراما أو استعراضا شاملا تاريخيّا وكليّا، حول مسألة العنف. هناك بروتوس (بالطبع) الى لورنس العرب الى بانشو فيللا الى الفييتكونغ.
هذا الفيلسوف فولمان غير التقليدي، يتطرق أيضا وإن مرغما الى منظّري العنف، مثل كلورفيتز وصن تزو وماكياليللي ومولوتوف. ويحدد ويفسر على طريقته- وثيقة الصلة بالموضوع- بمفاهيم ذكية وحصيفة. على سبيل المثال "حقوق الأنا" و"الحساب الأخلاقي" هذان المفهومان اللذان يتيحان له فضح منظّري أو"علماء رياضيات الأخلاق أتباع السلطة". فهو يعتبر في واحدة من أفكاره أنه يتوجب على السطة الثورية أن "تكشف السمة المبررة لوسائلها وذرائعها وأهدافها".
ولا يتساءل فولمان وحسب حول "متى يمكن أن يكون الردع العنيف مبرَّرا؟ " وإنما حول "متى يكون العنف غير مبرر"؟
القسم الثاني من الكتاب يقوم بدراسة الحالات وتبعاتها, يصطحبنا فولمان الى عند الياكوزا "المافيا اليابانية" والى عند عصابات الشوارع في أميركا والانفصاليين المسلمين عند الحدود الماليزية.
وإلى مثلث الذهب، ويقوم بزيارة إلى ملك الأفيون خون سا الذي يصفه بالقول "هذا الرجل الخطير الكاريزماتيكي، الجذاب، كانت مقابلته واحدة من كبريات تجاربي الصحافية. هذا الكاتب على نقيض فلاسفة الغرف المقفلة وعلماء علم الاجتماع المتأملين المفكرين داخل الصالونات يجازف بحياته، وقد تعرض للموت أكثر من مرة، خلال مغامراته وتحقيقاته. فقد صديقين كانا بصحبته خلل ذلك؛ نتيجة كمين تعرضوا له في البوسنة. ويعترف أنه قد قام هو نفسه باختطاف أحدهم! ويقول إنه سيبقى على الدوم فخورا بأنه أنقذ فتاة تايلندية، إذ يعتبر أن "الدعارة الإجبارية هي تحديدا عنف غير مبرر".
حيث يسأل فولمان امرأة كمبودية، كان شقيقها ضحية "الخمير الحمر": ما الذي ترغب في أن تسأله بول بوت؟ تجيبه:" أريد ببساطة فقط أن أعرف: لماذا؟". هذا السؤال الملح هو ما يسعى هذا الكتاب الى إيجاد عناصر، ومقومات للإجابة عليه، عبر اكتشاف ظلامية ودهمة الأرواح البشرية، وبتطابق مع الغير. وهذا يعني من خلال اهتمام حقيقي بالضحايا.. وبجلاديهم... يعيننا فولمان على الفهم عوض أن ندين، وهو يستكشف بعناية شديدة وبدقة كل أمكنة وأركان العنف، ومن بينها تلك الجملة التي كتبها الروائي ألدوس هاكسلي "إن معرفة الذات أليمة".
أخيراً هذه الملاحظة الموضوعة شعارا للصور المرفقة بكتابه. وهي صور لرجال وأطفال مسلحين "صور قاتمة غير ناجحة للأسف صوّرها فولمان بنفسه"، وتقول الملاحظة المستوحاة من الصور "الجميع يعارض العنف، إذن، لم يبدُ الكثير من هؤلاء الأشخاص مبتهجين"؟