كل عام وانتم بألف خير
بمناسبة العام الهجرى الجديد
خلونا نتذكر هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم
موضوع عجبنى جداً ومكتوب بطريقة مبسطة وسلسة
مقدمة
لم تكن الهجرة أمرًا سهلًا ميسورًا، ولم تكن كذلك ترك بلد ما إلى بلد آخر ظروفه أفضل، وأمواله أكثر، ليست عقد عمل بأجر أعلى، الهجرة كانت تعني ترك الديار، وترك الأموال، وترك الأعمال، وترك الذكريات، الهجرة كانت ذهابًا للمجهول، لحياة جديدة، لا شك أنها ستكون شاقة، وشاقة جدًا، الهجرة كانت تعني الاستعداد لحرب هائلة، حرب شاملة، ضد كل المشركين في جزيرة العرب، بل ضد كل العالمين، الحرب التي صورها الصحابي الجليل العباس بن عبادة الأنصاري على أنها الاستعدادُ لحرب الأحمر والأسود من الناس.
هذه هي الهجرة، ليست هروبًا ولا فرارًا، بل كانت استعدادًا ليوم عظيم، أو لأيام عظيمة؛ لذلك عظّمَ الله من أجر المهاجرين:
{الَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(58)لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيم}[لحج:58، 59]
لذلك كانت هجرة الرسول الكريم بعد أن نجحت بيعة العقبة الثانية، وأصبح الأنصار يمثلون عددًا لا بأس به في المدينة المنورة، وَقبِلوا أن يستقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يحموه مما يحمون منه نساءهم و أبناءهم وأموالهم، وجاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن له بفتح باب الهجرة لأصحابه إلى المدينة المنورة، كل من يستطيع أن يهاجر فليهاجر، بل يجب أن يهاجر...
الضعفاء والأقوياء...
الفقراء والأغنياء...
الرجال والنساء...
الأحرار والعبيد...
الكل يهاجر إلى المدينة...
هناك مشروع ضخم سيُبْنى على أرض المدينة، مشروع يحتاج إلى كل طاقات المسلمين، هناك مشروع إقامة أمة إسلامية، لا يُسمح لمسلم بالقعود عن المشاركة في بناء هذا الصرح العظيم،فلا مكان للكسل، أو الكلام فقط بل العمل والعمل الجاد، انظر إلى الآيات تتحدث عن الهجرة:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(97)إِلَّا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا(98)فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا(99)وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:97،100] .
صدر الأمر النبوي لجميع المسلمين القادرين علي الهجرة أن يهاجروا، لكن لم يبدأ هو صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلا بعد أن هاجر الجميع إلي المدينة، لم يكن من همِّه صلي الله عليه وسلم أن ينجو بنفسه، وأن يُؤَمِّنَ حاله، بل كان كل همه صلى الله عليه وسلم أن يطمئن على حال المسلمين المهاجرين، كان صلى الله عليه وسلم يتصرف كالرُّبَّان الذي لا يخرج من سفينته إلا بعد اطمئنانه على أن كل الركاب في أمان؛ فالقيادة ليست نوعًا من الترف أو الرفاهية، القيادة مسئولية،وتضحية، وأمانة.
وفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باب الهجرة على مصراعيه أمام كل راغب فيه؛ فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجرَ ما نهى الله عنه". [البخاري:كتاب الإيمان باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده/9]، وفي رواية ابن حبان: "المهاجرُ من هجر السيئات، والمسلمُ من سلمَ المسلمون من لسانه ويده".[ابن حبان/196]
أما ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية"[البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير/2575]، وزاد مسلم في روايته"وإذا استنفرتم فانفروا"، فالمراد بلا هجرة بعد الفتح أي لا هجرة واجبة بعد الفتح، وإذا كانت الهجرة المادية تجب في بعض الأحوال، فإن الهجرة المعنوية واجبة على كل حال وفي كل حين، لأنها تتعلق بهجر ما لا يرضي الله تعالى، وهي قائمة إلى أن تقوم الساعة. ورد في صحيح مسلم أن مجاشع بن مسعود السلمي قال: جئتُ بأخي أبي معبد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله بايعه على الهجرة. فقال صلى الله عليه وسلم: "قد مضت الهجرةُ بأهلها" قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على الإسلام والجهاد والخير"[مسلم/3466]، وعن أبي هند البجلي قال، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها".[أحمد/16301 ]
والمسلم مكلف بأن يهجر كل ما حرم الله، وأن يهاجر إلى ما أحل الله، لأن هذا هو الهدف من استخلافه في الأرض لقوله تعالى: {وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]، وهل العبادة إلا طاعة الله فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر؟
والعبادة قد تصل بالإنسان إلى أجر الهجرة، بخاصة إذا كانت العبادة في وقت غفل العباد عن طاعة الله، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ "[مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب فضل العبادة في الهرج/5242]
والمعنى الذي حدده المصطفى صلى الله عليه وسلم للهجرة معنى عام، تمتد جذوره إلى أعماق الحياة البشرية، فتقيمها على أسس قويمة، أسس تقوم على أساس الإصلاح والصلاح للحياة الإنسانية، والأمن والاستقرار للنفس البشرية، ولهذا كانت كلمات الحديث الشريف متكاملة في تحديد معنى الهجرة على أساس أنها عبادة ترتبط بعقيدة الإنسان وإيمانه، وعلى أساس أنها عملية بناء وإصلاح تأخذ بيد الإنسانية إلى شاطئ الأمان والاطمئنان. فهجر ما نهى الله عنه يعني هجر السيئات والمعاصي والمفاسد القولية والفعلية، والتي هي الأساس في فساد البلاد والعباد، ولهذا أكد الحديث على (كف اللسان واليد) إذ أنهما الأعضاء التي تصدر عنها المفاسد القولية والفعلية، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" [البخاري: كتاب الأدب باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه/5671 ].